لطالما كان الصراع الفكري بين الناس يدور حول قيمة العمل الذي يقوم به كل منهم. فالذين يميلون للتفكير والإنتاج ( المحترم ) يتهمون الآخرين بأنهم تافهين ولا قيمة لهم. بينما الناس الذي يطلق عليهم تافهين ينظرون للمفكرين أنهم ( معقدون نفسيا ). هذا الصراع لطالما كان محتدما في العصور السابقة وهو مازال كما هو إلى يومنا هذا. لكن من الذي يتألم أكثر؟ إنهم طبقة المفكرين، لأنهم الأكثر تضررا في العملية. فبينما يمضي التافهون في حياتهم مستمتعين بما يعتقده المفكرون إسفاف وسخافة، يجد أكثر المفكرين والمنتجين أن حياتهم ليست بتلك النجاح والإنطلاق الذي يتمنونه.
هذا واضح جدا حتى بين النخبة وطبقة المثقفين، إذ يتراشقون بالكلمات المبطنة حول ما يقدمه كل منهم من فكر وإنتاج علمي أو أدبي. صار الصراع الآن بين المفكرين بعضهم بعضا وبينهم وبين من يطلقون عليهم مسمى تافهين. هذا الصراع يخلق فجوة بين الناس وبين طبقات المجتمع فيفصل المفكر عن الإنسان العادي فيبقى المفكر في برجه العاجي لا يستطيع الوصول إلى الناس ويبقى الناس مترددين في قبول المفكر بل وناقمين عليه لأنه بكل بساطة يهينهم بنظراته الثاقبة. يقول لهم أنتم أغبياء، أنتم حمقى، أنتم بلا قيمة حقيقية.
لماذا تنجح المغنية في جذب الناس بسهولة؟ سنقول بأنها تجذب الرجال الجنسيين التافهين، فهم يتساقطون أمام جمالها الإصطناعي وعريها وحركاتها المثيرة للغريزة. هذا جيد، هي إذًا تؤثر عليهم بعريها ومياعتها وإبتذالها، لكن ماذا عن عشرات ملايين البنات والنساء؟ هل هؤلاء أيضا يرغبون فيها جنسيا؟ من المفروض أنهم يغارون منها ويتقززون من تعريها على شاشات التلفزيون. إذًا أين يكمن السر؟
السر يكمن في المشاعر، إنها المشاعر التي يحصل عليها الناس من هذة المغنية أو ذاك الممثل ( السخيف ). المهرج، الراقصة، الكوميديان، رجل الدين، السياسي المتلاعب بالناس، التاجر المخادع، المدرب السخيف، الممثل الكوميدي، وغيرهم الكثيرين ممن يطلق عليهم تافهين أو هامشيين هم في الحقيقة يقومون بدور جوهري في حياة الناس، إنهم يمنحونهم وقتا من السعادة أو الإثارة أو الحزن، أو يحركون غرائزهم، أو يوهمونهم بالأمل. وعندما تعترض عليهم وعلى طريقتهم في إحداث المشاعر فأنت في الحقيقة تعترض على ( مشاعر ) من يتابعهم ويهتم بهم. أنت تنكر على الناس تلك المشاعر الطبيعية وتضع لها أسعارًا على حسب مزاجك.
لقد صار المفكرون يساومون الناس على مشاعرهم ويتعاملون معهم بناءً عليها. يضعون قيمة عالية للفكر والإنتاج العلمي والأدبي ويهزئون بمشاعر البهجة والفرح والبساطة وبهذا نصّب أكثر المفكرين أنفسهم قضاة وجلادين على المشاعر الإنسانية، لذلك لا يجب أن نستغرب عدم إهتمام الناس بالعلم والثقافة والأدب. ليس لأن الناس لا تريدها ولكن لأن المصدر ملوث. يجب أن يرضخوا لأحكام قاسية حتى يحصلون على العلم، ويجب أن يتنازلون عن كل مشاعرهم الأخرى في سبيل الحصول على معلومات تغذي حاجتهم لمشاعر التفوق والتميز والأداء.
في الواقع، كل المشاعر هي مشاعر فما الذي يجعلنا نعتقد أن مشاعر الفخر بالإنجاز الثقافي أعلى من مشاعر الإستمتاع بالنظر إلى ساق ممثلة أو أغنية لمغني هابط؟ ليس هناك سبب مقنع في الحقيقة لأن كل مشاعر البشر طبيعية وهي تخدم جزء أصيل في أرواحهم وتخدم أيضا مرحلتهم في التطور الفكري والروحي وتمنح شخصياتهم التباين المطلوب لإستمرار التوازن في الحياة. عندما ينتهون من إستمتاعهم سيعودون إلى الأشياء الأخرى وإن هم زادوا من الجرعة في مشاعر معينة فإن الكون مصمم بحيث يعيدهم إلى جادة الصواب من خلال أحداث حياتهم، فلماذا نعترض عليهم وعلى أسلوب حياتهم؟ ليس هناك سبب واضح إلا الغرور والإستعلاء الذي يشعر به المفكر أو المثقف. فهو لا يفتح الأبواب للناس ولا يقبل بهم في عالمه ولذلك يهربون منه إلى عالم يغذي جزء حاجاتهم الشعورية بلا إعتراض وبلا إنتقاد أو توقعات.
عندما تنجح هيفاء وهبي في إستقطاب الناس وتفشل أنت أيها المفكر فليس لأنها عاهرة أو مبتذلة أو سخيفة، فلعل السبب الأكبر والأهم أنها قبلت الناس كما هم، لم تعترض عليهم وعلى نظراتهم وسخافاتهم وكذبهم وإشاعاتهم وأحلامهم العفنة بها. إنها تملك مساحة تقبل أكبر مما تملك أيها المفكر ولذلك يجد الناس سهولة في التعلق بها. إقترب من الناس، أسقط إعتراضاتك عليهم، لا تحكم على مشاعرهم ولا تضع أسعارًا لها فأنت لست الشخص المناسب لوضع أسعار لمشاعر الناس فقط لأنك تعتقد بأنك مفكر أو مثقف.
تناغم مع الحياة، تناغم مع كل الأشياء التي تعتقد بأنها باطلة أو سخيفة. هذا لا يعني أنك تتفق معها أو تروج لها ولكن تتقبلها كما هي كحقائق واقعة. إنها مشاعر الناس وهي ليست كاذبة، ليست وهم. إنها حقيقة. عندما تفعل وتسمح للبشر أن يعبرون عن مشاعرهم بكل حرية فهم سيدخلون عالمك بكل سهولة لأنهم بعد أن يغذون مشاعر البهجة والتسلية البسيطة سيرغبون في تغذية المشاعر الأخرى التي تمثلها أنت ومن المنطقي جدا أن تكون مستعدا لإستقبالهم في عالمك بلا إعتراضات أو إنتقادات أو أحكام قاسية. فقط إسمح لهم أن يدخلون عالمك ليستمتعوا كما كانوا يستمتعون مع هيفاء أو غيرها.