(الوعي والتنوير) أمام (الدين والتدين)

»  (الوعي والتنوير) أمام (الدين والتدين)
شكرا لزيارتك! المحتوى متوفر بعد تسجيل الدخول
تسجيل جديد
مدة القراءة: 4 دقائق

أناقش في هذا المقال دواعي ما ظهر مؤخراً في صفحات الوعي والتنوير على مواقع التواصل الاجتماعي من خلاف ديني وأسبابه وجذوره. برزت مؤخراً على زجاج من ينسبون أنسفهم إلى الوعي والتنوير الشقوقُ التي كانت يوماً مجهرية، على إثر ظهور أراء جديدة في تفسير القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي يعد المرجع الأول، ذا القداسة، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عند المسلمين. كان متوقعاً ممن ينسبون أنفسهم إلى الوعي والتنوير، أن يقبلوا اختلاف الآراء، ويقبلوا بظهورها على الأقل وذلك تحقيقاً للمفهوم الأول الذي يتبناه هذا الفكر من قبول جميع الأقوال والآراء وعدم تخطئتها، وليس لك كواعٍ أو مستنير إلا أن تصمت باحترام ومحبة وانسجام.

هذا الخلاف، أجلى لي ما كنت أستقرئه -منذ زمن- تحت أحرف العديد ممن ينسبون أنفسهم إلى الفكر والتنوير. ظهر هذا الخلاف لعدة أسباب، منها: أولاً: عدم وصول ممن يدعون الوعي والتنوير للقناعات المتبناة من قبلهم عن طريق القراءة والبحث والتجربة الذاتية بل عن طريق التقليد البحت والتبعية. ثانياً: عدم الثقة في الموروث الديني الموجود لديهم وعدم الإيمان بما يعتقدون حقيقة. فوجدوا أنفسهم بين نارين، نار المعلم الذي يرشدهم في طريق التنوير، ونار الشيخ الذي يفسر لهم القرآن الكريم.

باي نتورك

يتناول هذا البحث المتواضع الخلاف بين الفكر التنويري (الوعي والتنوير) والفكر الديني (الدين والتدين) وهل هنالك تعارض بينهما؟
الوعي والتنوير الذي أتحدث عنه هنا هو ما يدور في دورات التنمية الذاتية وكتبها ومباحثها الغربية والشرقية، وهي وعي الإنسان بحقيقته وكينونته التي هي روحه وحقيقة وكينونة الكون من حوله كقوانين وظواهر. ليصل في نهاية رحلة البحث هذه إلى مرحلة التنوير حيث يظهر كل شيء على حقيقته.
أما الدين والتدين فهو الطريقة والعبادات والطقوس والشعائر والمعتقدات التي يتبعها المتدين نتيجة التدين النابع من إيمانه الاختياري بالإله الذي يعبده والذي يأمره بممارسة هذه العبادات.
يأتي السؤال المهم، هل هنالك تعارض بين الفكر الديني وبين الفكر التنويري والوعي؟ أعتقد أن هنالك تعارض، نعم !
لماذا؟ يأتي البيان.

يزعم أهل الوعي والتنوير أنه ليس هنالك حقيقة واحدة. وبأن الحقائق متغيرة بتغير الزمان والمكان إلخ. وبأن أي فكرة مهما كانت هي فكرة قابلة للدحض والإثبات في نفس الوقت، وأن الوصول إلى هذه المرحلة من القدرة هو مما يدل على الوعي المرتفع.
ويزعم أهل الدين والتدين، أن هنالك حقائق ثابتة -بغض النظر عن كونها كثيرة أو قليلة- لا تقبل التغيير، وبأن هنالك أمور وممارسات ثابتة لا تقبل التغيير كذلك، وأن أديانهم صالحة لكل زمان ومكان، وبوجود مساحة فيها للاجتهاد وتقبل التغيير في بعض الأمور الفرعية.
الحقيقة، والحقائق، إذاً هي محل هذا الخلاف والنزاع بين المدرستين.
ماذا لو ذهبنا إلى الفلاسفة والمناطقة وسألناهم هذا السؤال، هل هنالك حقائق ثابتة؟ ماذا نتوقع أن يجيبوا؟ سيجيبون بالتأكيد بصفحات وصفحات، أقتطع منها جملة واحدة، بأن هنالك حقيقة، ولكن يختلف مستوى إدراك هذه الحقيقة والوعي بكنهها. إذاً هنالك حقيقة، ولو كانت حقيقة واحدة على الأقل، المهم أن هنالك حقيقة.
سيجيب أهل الوعي والتنوير على أهل الفلسفة والمنطق: بأن المنطق لا يحتج به لأن الوعي العالي يتجاوزه ولا يعتد به.
فأتدخل هنا أنا وأجيب. هنالك أمور وقوانين في هذا الكون يطرحها أهل الوعي والتنوير لا تعمل إلا عند الإيمان بها واستحضارها بشكل يقيني في نفس الإنسان -وهذا ما يدعون إليه أيضاً-. هذا اليقين والإيمان بها هو بحد ذاته إيمان بحقيقتها ووجودها. إذاً لنترك هذا (السيرك) الفكري الذي لا غاية منه، فالجميع لديهم ما يؤمنون به.

نأتي الآن لسؤال أكثر تعقيداً، ماذا لو تعارضت حقيقة تنويرية مع حقيقة دينية للسائر في طريق الوعي والتنوير وطريق الدين التدين؟ ولم يتمكن من الجمع بينهما-وسيأتي مثال على ذلك -؟
من قرأ كتباً في الوعي التنوير، سيرى جلياً، أن كثير من الممارسات والأفكار والمعتقدات فيها، تأتي من مدارس دينية مختلفة شرقية وغربية -ليس كلها بطبيعة الحال-. وكثير من المعتقدات في حقيقتها هي معتقدات دينية، وإن كان متاحاً تطبيقها للجميع دون إتباع الدين الذي نشأت فيه هذه الممارسات. لذلك من البدهي ومن المتوقع جداً أن يحصل تعارض بين هذه الموروثات الدينية ونظيراتها في الأديان الأخرى. فالموروثات الدينية بطبيعتها تختلف من دين لآخر وإن كان هنالك أديان متشابهة في المسائل الرئيسة (كالأديان الإبراهيمية)، فالخلافات تعد جذرية بين الأديان الإبراهيمية والأديان الشرقية (كالبوذية والهندوسية والطاوية إلخ).
ومن الأمثلة على هذه الحقائق المتعارض عليها، مثلاً، الإيمان بالبعث والنشور، والإيمان بالتناسخ، والإيمان بوحدة الخالق، والإيمان بالجنة والنار. فهذه من المسائل التي فيها تعارض كبير بين الأديان المختلفة.
(وهنا سؤال يقول: إذا كانت هذه الممارسات نشئت ضمن فكر ديني، فلماذا اتخذت مساراً لا دينياً في المدارس الحديثة؟ سأجيب عنه – بإذن الله – في مقال آخر)

ومن الجدير بالذكر هنا، نجاح المدربين العرب إلى حد ما في نقل الممارسات التوعوية والتنويرية بعد أسلمة هذه الممارسات وتخليصها مما قد يعارض الديانة الإسلامية والأديان الإبراهيمية، لينتفع بها الباحث العربي في الوعي والتنوير.
لكن يظل السؤال، لماذا ظهر الخلاف الذي ظهر مؤخراً رغم أسلمة هذه الممارسات والمعتقدات؟
أعتقد أن الخلاف تقع مسؤوليته على طرفين:
الطرف الأول وهم المدربون: وذلك لأن بعض المدربين الذين نقلوا هذه الممارسات والمعتقدات لم يبينوا جذور هذه الأفكار لأسباب عديدة منها مثلاً: خشيتهم من نفور المجتمع من هذه الأفكار. وأيضاً استخدامهم الأدلة القرآنية والشرعية في إثبات صحة هذه الأفكار والمعتقدات -رغم اختلاف الجذر الديني- ولي أعناق الأدلة من أجل ذلك. فلم يتموا ما عليهم من نقل روح هذه الممارسات بشكل كامل، أو على الأقل أغفلوا بعض الجوانب التي تتسبب في حصول هذه الخلافات. وقيل قديماً: آفة العلم رواته.

الطرف الثاني وهو المتلقي: ما زال بعض المتلقين العرب -للأسف الشديد- يتلقون دون وعي حقيقي، فلا يبحث المتلقي منهم في أصول هذه الممارسات ولا يعنيه ذلك، فهو يفرح بكونه قادراً على أن يجيب من يخالفه: أنت مبرمج، هذا إسقاط، هذا انعكاس، ويكتفي بذلك معتقداً أن حضور الدورات التدريبية ومشاهدة اليوتيوب كافيان لادعاء التنوير -وهذا ليس علما ولا معرفة بل جهل مركب- على عكس حقيقة الأمر في كون الباحث الحقيقي يقرأ ويقرأ ويقرأ حتى يصل إلى ما يطمئن إليه دون هلع من ظهور من يخالفه.

أخلص في آخر المقال إلى سطر واحد:
لا تتبنى فكرة دون أن تبحث عن أبعادها وأصولها الدينية والفكرية، حتى لا تجد نفسك تائها لا تلوي على شيء.

رامي عبدالله

  • أفضل منصة تداول
  • مقالاتي المفضلة

    • لم يعثر على أي تفضيلات
  • تعلّم الإنجليزية بسرعة

    تعلّم الإنجليزية بسرعة

  • شبكة أبرك للسلام - جميع الحقوق محفوظة
    Developed by WiderSite

    (الوعي والتنوير) أمام (الدين والتدين)

    مدة القراءة: 4 دقائق

    أناقش في هذا المقال دواعي ما ظهر مؤخراً في صفحات الوعي والتنوير على مواقع التواصل الاجتماعي من خلاف ديني وأسبابه وجذوره. برزت مؤخراً على زجاج من ينسبون أنسفهم إلى الوعي والتنوير الشقوقُ التي كانت يوماً مجهرية، على إثر ظهور أراء جديدة في تفسير القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي يعد المرجع الأول، ذا القداسة، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عند المسلمين. كان متوقعاً ممن ينسبون أنفسهم إلى الوعي والتنوير، أن يقبلوا اختلاف الآراء، ويقبلوا بظهورها على الأقل وذلك تحقيقاً للمفهوم الأول الذي يتبناه هذا الفكر من قبول جميع الأقوال والآراء وعدم تخطئتها، وليس لك كواعٍ أو مستنير إلا أن تصمت باحترام ومحبة وانسجام.

    هذا الخلاف، أجلى لي ما كنت أستقرئه -منذ زمن- تحت أحرف العديد ممن ينسبون أنفسهم إلى الفكر والتنوير. ظهر هذا الخلاف لعدة أسباب، منها: أولاً: عدم وصول ممن يدعون الوعي والتنوير للقناعات المتبناة من قبلهم عن طريق القراءة والبحث والتجربة الذاتية بل عن طريق التقليد البحت والتبعية. ثانياً: عدم الثقة في الموروث الديني الموجود لديهم وعدم الإيمان بما يعتقدون حقيقة. فوجدوا أنفسهم بين نارين، نار المعلم الذي يرشدهم في طريق التنوير، ونار الشيخ الذي يفسر لهم القرآن الكريم.

    يتناول هذا البحث المتواضع الخلاف بين الفكر التنويري (الوعي والتنوير) والفكر الديني (الدين والتدين) وهل هنالك تعارض بينهما؟
    الوعي والتنوير الذي أتحدث عنه هنا هو ما يدور في دورات التنمية الذاتية وكتبها ومباحثها الغربية والشرقية، وهي وعي الإنسان بحقيقته وكينونته التي هي روحه وحقيقة وكينونة الكون من حوله كقوانين وظواهر. ليصل في نهاية رحلة البحث هذه إلى مرحلة التنوير حيث يظهر كل شيء على حقيقته.
    أما الدين والتدين فهو الطريقة والعبادات والطقوس والشعائر والمعتقدات التي يتبعها المتدين نتيجة التدين النابع من إيمانه الاختياري بالإله الذي يعبده والذي يأمره بممارسة هذه العبادات.
    يأتي السؤال المهم، هل هنالك تعارض بين الفكر الديني وبين الفكر التنويري والوعي؟ أعتقد أن هنالك تعارض، نعم !
    لماذا؟ يأتي البيان.

    يزعم أهل الوعي والتنوير أنه ليس هنالك حقيقة واحدة. وبأن الحقائق متغيرة بتغير الزمان والمكان إلخ. وبأن أي فكرة مهما كانت هي فكرة قابلة للدحض والإثبات في نفس الوقت، وأن الوصول إلى هذه المرحلة من القدرة هو مما يدل على الوعي المرتفع.
    ويزعم أهل الدين والتدين، أن هنالك حقائق ثابتة -بغض النظر عن كونها كثيرة أو قليلة- لا تقبل التغيير، وبأن هنالك أمور وممارسات ثابتة لا تقبل التغيير كذلك، وأن أديانهم صالحة لكل زمان ومكان، وبوجود مساحة فيها للاجتهاد وتقبل التغيير في بعض الأمور الفرعية.
    الحقيقة، والحقائق، إذاً هي محل هذا الخلاف والنزاع بين المدرستين.
    ماذا لو ذهبنا إلى الفلاسفة والمناطقة وسألناهم هذا السؤال، هل هنالك حقائق ثابتة؟ ماذا نتوقع أن يجيبوا؟ سيجيبون بالتأكيد بصفحات وصفحات، أقتطع منها جملة واحدة، بأن هنالك حقيقة، ولكن يختلف مستوى إدراك هذه الحقيقة والوعي بكنهها. إذاً هنالك حقيقة، ولو كانت حقيقة واحدة على الأقل، المهم أن هنالك حقيقة.
    سيجيب أهل الوعي والتنوير على أهل الفلسفة والمنطق: بأن المنطق لا يحتج به لأن الوعي العالي يتجاوزه ولا يعتد به.
    فأتدخل هنا أنا وأجيب. هنالك أمور وقوانين في هذا الكون يطرحها أهل الوعي والتنوير لا تعمل إلا عند الإيمان بها واستحضارها بشكل يقيني في نفس الإنسان -وهذا ما يدعون إليه أيضاً-. هذا اليقين والإيمان بها هو بحد ذاته إيمان بحقيقتها ووجودها. إذاً لنترك هذا (السيرك) الفكري الذي لا غاية منه، فالجميع لديهم ما يؤمنون به.

    نأتي الآن لسؤال أكثر تعقيداً، ماذا لو تعارضت حقيقة تنويرية مع حقيقة دينية للسائر في طريق الوعي والتنوير وطريق الدين التدين؟ ولم يتمكن من الجمع بينهما-وسيأتي مثال على ذلك -؟
    من قرأ كتباً في الوعي التنوير، سيرى جلياً، أن كثير من الممارسات والأفكار والمعتقدات فيها، تأتي من مدارس دينية مختلفة شرقية وغربية -ليس كلها بطبيعة الحال-. وكثير من المعتقدات في حقيقتها هي معتقدات دينية، وإن كان متاحاً تطبيقها للجميع دون إتباع الدين الذي نشأت فيه هذه الممارسات. لذلك من البدهي ومن المتوقع جداً أن يحصل تعارض بين هذه الموروثات الدينية ونظيراتها في الأديان الأخرى. فالموروثات الدينية بطبيعتها تختلف من دين لآخر وإن كان هنالك أديان متشابهة في المسائل الرئيسة (كالأديان الإبراهيمية)، فالخلافات تعد جذرية بين الأديان الإبراهيمية والأديان الشرقية (كالبوذية والهندوسية والطاوية إلخ).
    ومن الأمثلة على هذه الحقائق المتعارض عليها، مثلاً، الإيمان بالبعث والنشور، والإيمان بالتناسخ، والإيمان بوحدة الخالق، والإيمان بالجنة والنار. فهذه من المسائل التي فيها تعارض كبير بين الأديان المختلفة.
    (وهنا سؤال يقول: إذا كانت هذه الممارسات نشئت ضمن فكر ديني، فلماذا اتخذت مساراً لا دينياً في المدارس الحديثة؟ سأجيب عنه – بإذن الله – في مقال آخر)

    ومن الجدير بالذكر هنا، نجاح المدربين العرب إلى حد ما في نقل الممارسات التوعوية والتنويرية بعد أسلمة هذه الممارسات وتخليصها مما قد يعارض الديانة الإسلامية والأديان الإبراهيمية، لينتفع بها الباحث العربي في الوعي والتنوير.
    لكن يظل السؤال، لماذا ظهر الخلاف الذي ظهر مؤخراً رغم أسلمة هذه الممارسات والمعتقدات؟
    أعتقد أن الخلاف تقع مسؤوليته على طرفين:
    الطرف الأول وهم المدربون: وذلك لأن بعض المدربين الذين نقلوا هذه الممارسات والمعتقدات لم يبينوا جذور هذه الأفكار لأسباب عديدة منها مثلاً: خشيتهم من نفور المجتمع من هذه الأفكار. وأيضاً استخدامهم الأدلة القرآنية والشرعية في إثبات صحة هذه الأفكار والمعتقدات -رغم اختلاف الجذر الديني- ولي أعناق الأدلة من أجل ذلك. فلم يتموا ما عليهم من نقل روح هذه الممارسات بشكل كامل، أو على الأقل أغفلوا بعض الجوانب التي تتسبب في حصول هذه الخلافات. وقيل قديماً: آفة العلم رواته.

    الطرف الثاني وهو المتلقي: ما زال بعض المتلقين العرب -للأسف الشديد- يتلقون دون وعي حقيقي، فلا يبحث المتلقي منهم في أصول هذه الممارسات ولا يعنيه ذلك، فهو يفرح بكونه قادراً على أن يجيب من يخالفه: أنت مبرمج، هذا إسقاط، هذا انعكاس، ويكتفي بذلك معتقداً أن حضور الدورات التدريبية ومشاهدة اليوتيوب كافيان لادعاء التنوير -وهذا ليس علما ولا معرفة بل جهل مركب- على عكس حقيقة الأمر في كون الباحث الحقيقي يقرأ ويقرأ ويقرأ حتى يصل إلى ما يطمئن إليه دون هلع من ظهور من يخالفه.

    أخلص في آخر المقال إلى سطر واحد:
    لا تتبنى فكرة دون أن تبحث عن أبعادها وأصولها الدينية والفكرية، حتى لا تجد نفسك تائها لا تلوي على شيء.

    رامي عبدالله

    رأيك مهم، شارك بفكرة تثري تجربة الآخرين