هل تحدثت إلى أحدهم وإكتشفت أنه في اللحظة التي بدأ فيها يفهم قصدك تراجع؟ قد تستغرب السبب رغم أنه تبدو عليه علمات الفهم بل هو مستعد للخوض في أي مجال من مجالات الحياة والعلوم والسياسة والإقتصاد والفنون، ورغم ذلك هناك نوعية معينة من المواضيع لا يستطيع مناقشتها أو الإسترسال فيها أو حتى في بعض الحالات المتأخرة البقاء في نفس المكان الذي يدور فيه الحديث عن الأديان.
هذة ليست حالات فردية يعاني منها البعض وإنما هي حالة شبه عامة تعاني منها الشعوب المتدينة والمنغلقة على فكرها. يتصرف أفرادها وكأنهم يتجنبون شيئ غير واضح المعالم. يلفون ويدورون ويصابون بالضيق الشديد في كل مرة يتجه الحديث عن إستخدام العقل أو الإبحار في الفكر وخصوصا في فكر أصحاب الأديان الأخرى أو الإعتقادات المخالفة أو الثقافات التي يعتبرونها آثمة. عندما نحلل سلوكهم نكتشف التالي:
سلوك النفور من التفكير جملة وتفصيلا وهنا نقصد التفكير في الله والوجود وكل الأمور التي تُعد في علم الغيب ومنها علم الغيب نفسه فهو علم محرم الخوض فيه أو التفكير فيه أو محاولة فهم آلياته، فهو من علم الله ولا يجوز لأحد الإعتراض أو التشكيك فيه. أما الحديث عن أفكار متعلقة بالله مباشرة فهي إثم قد يفضي للكفر. عقدة الكفر متغلغلة في نفسية المتدين وهنا ما يعنينا هو المتدين العربي على وجه الخصوص.
لو دققنا النظر إلى سبب الخوف من الكفر فسنجد بأنه غير منطقي بالمرة لأن من يتوقف عن التفكير في الأمور اللاهوتية وفي تحليل وتدبر العلوم الدينية والفقه والتدقيق في القصص الديني، هو لم يتوقف أبدا عن الإتيان بكل أعمال الخطيئة من وجهة نظر الدين، فمن الإنحارافات الجنسية إلى سوء الظن بالله إلى إرتكاب المعاصي بأنواعها وبدرجاتها إلى الجريمة وفي النهاية ترك العبادات والطقوس. ما الذي يجعل إنسان يرتكب كل الآثام المذكورة في الدين ومع ذلك لا يستطيع التحدث بموضوعية عن أعماله ولا يستطيع التفكير في حقيقة سلوكه؟ فما بالك إن طلبنا منه أن يفكر أو يتعاطى مع أفكار جديدة ليست من ثقافته؟
إنها عقدة الكفر. هو لا يعنيه أن يأتي بكل الآثام ويرتكب كل الخطايا مادام منتميا للدين. يعتبرها آثام قابلة للتطهر منها في يوم من الأيام بالتوبة أو حتى بالإبتلاء والمحن وإن تطلب الأمر الشفاعة. ولكن لماذا عقدة الكفر بالذات؟ هذا راجع لأمرين. الأمر الأول هو أن الثقافة الدينية روجت بشدة ولعقود متتالية أن التفكير في أي شيئ غير الدين أو أي شيئ في علم الغيب أو إنتقاد الأحكام الدينية أو السؤال عن أي خافي هو بالضرورة سيؤدي للكفر والإلحاد والخروج من الملة، وهذة مشكلة كبيرة لها تداعياتها النفسية على المؤمن.
الأمر الثاني هو الإعتقاد السائد أن الأخلاق هي صناعة دينية وأن البشر بدون الدين لا يمكنهم أبدا إختراع أخلاق فاضلة. فالمربط بخلفيته الدينية يعتقد أنه لو فكر فحتما سيعجز عن إيجاد إجابات شافية لما غاب عنه فهو بالتالي قد يكفر أو يلحد، وحينها سينهار عالمه تماما. ثقافته الدينية ربطت بين الإلحاد أو الكفر وبين سوء الأخلاق وإرتكاب الجريمة وغيرها من الموبقات من وجهة نظر الدين والعرف.
على هذا الأساس هو يتجنب التفكير لأنه قد يكفر ويفقد كل شيئ. يفقد أخلاقه ويفقد علاقته بخالقه وعلاقته بالناس ويتحول إلى مجرم أو مخنث أو عاهرة أو مدمن مخدرات ويشرب الخمر ويأكل الخنزير وقد يقتل أو يغتصب أو يسرق. ثقافته الدينية قالت له أن هذا هو حال الكفار والملحدين وكل الشعوب الأخرى التي لا تدين بدينه. لا يستطيع تصور أنه إذا ترك دينه بأنه يستطيع تحمل مسؤلية سلوكه وتصرفاته لأنه حينها سيتحول إلى حيوان حسب تصوره.
ليسلم من كل ذلك يلجأ لإغلاق عقله وتحجيمه والإكتفاء بالتفكير في كل الأمور الأخرى التي لا علاقة لها بالدين أو بالنص المقدس أو أصل الوجود أو ما هو اللاهوت وكيف تكونت الأديان وكيف تطورت، فتلك أسئلة وأفكار لن يأتي من وائها خير ومن الأجدى والأسلم عدم التفكير فيها بالمرة. حينها يعيش حياة مزدوجة بكل معاني الكلمة. من ناحية، حياته العامة كإنسان مؤمن مكتفي بدينه دون نقد أو إعتراض أو حتى تدبر وكأنه مجرد منصب حصل عليه، ومن ناحية أخرى يرتكب ويمارس معظم الخطايا والآثام التي يعرفها مكتفيا بفكرة التوبة في يوم من الأيام.
لذلك لا تستغرب عندما ترى أذكياء ومفكرين وأدباء ومحترفين ومميزين لكن يقف عقلهم حائرا في سؤال بسيط مثل من خلق الله؟ هل فعلا توجد جنة أو نار؟ هل أنت على يقين أن الشيطان فعل هذا بك أو أن الله هو الذي منحك هذا؟ هل رأيت الله؟ هل رأيت الشيطان؟ هل فعلا ستعيش مليارات السنوات في الجنة تطارد النساء وتشرب الخمر؟ لماذا لم يستجب لك الله رغم دعواتك المتكررة؟ هل تعرف كيف بدأت الأديان؟
إنها عقدة الخوف من الكفر وتداعياتها على الإنسان حينما يشعر بأنه سيفقد كل شيئ يعرفه.